في رحلته الخارجيّة الأولى، يزور البابا لاوون الرابع عشر دولتَين ذُكِرَتا في الكتاب المقدّس وتاريخ الكنيسة الأولى.
وعلى الرغم من أنّ تركيا ولبنان يشتركان في تاريخ مُثقلٍ بالمِحَن، فإنّ مسارات البلدَين اليوم تكشف فوارق حادّة بينهما. حكمت الدولة العثمانيّة ما يُعرَف اليوم بدولة لبنان أكثر من أربعة قرون. ولم تنتهِ سلطتها في جبل لبنان إلّا في العام 1918، في خضمّ مجاعة الحرب العالميّة الأولى التي أودت بحياة مئات الآلاف، معظمهم موارنة.
أمّا تركيا الحديثة فهي «قوّةٌ متوسّطة» صاعدةٌ ونشِطة، تسعى باندفاع إلى توسيع نفوذها وصولًا إلى إفريقيا وآسيا الوسطى. وهي عضوٌ محوريّ في حلف شمال الأطلسيّ، تؤدّي تارةً دور الوسيط لفضّ نزاعاتٍ عدّة، وتتدخّل طورًا في نزاعات أخرى بشكلٍ مباشر. ويُعَدُّ رئيسها رجب طيّب أردوغان قائدًا رؤيويًّا يتميّز بقدرة سياسيّة، وهو مُستَبدّ يُضيّق على الأصوات المعارضة.حين زار البابا بولس السادس تركيا في العام 1967، وكانت تلك أوّل زيارةٍ بابويّةٍ للبلاد، حمل معه بعض الرايات العثمانيّة التي غنمها مسيحيّون في معركة ليبانتو الشهيرة. وأعادها الحبر الأعظم آنذاك في بادرة تسامح. غير أنّ تركيا في عهد أردوغان باتت قوّةً إسلاميّةً رافضةً الوضع الراهن، تستحضر أمجاد إمبراطوريّتها وتسعى إلى نشر الإسلام عالميًّا.
وفيما تُقيّد أنقرة النشاط التبشيريّ المسيحيّ، وتُحوّل عددًا من الكنائس البيزنطيّة التاريخيّة إلى مساجد، يُوسِّع مكتب الشؤون الدينيّة التركيّ حضوره في الغرب، مُغتنمًا هامش الحرّيّات. ويمول المكتب مئات المساجد في دول غربيّة ويفرض سيطرته عليها، ومنها مجمّع ضخم على الطراز العثمانيّ في ولاية ماريلاند الأميركيّة قرب واشنطن العاصمة.
لا شكّ في أنّ الحكومة التركيّة ستعدّ للبابا استقبالًا رسميًّا لائقًا، لكنّ المشاعر المعادية للمسيحيّين (والمعادية للساميّة والغرب) واسعة الانتشار في تركيا، وغالبًا ما يُحرِّكها مَن هم في السلطة.
يُعدُّ حضور المسيحيّين في تركيا خجولًا، إذ يُشكِّلون بضع مئات الآلاف، ولا تتجاوز نسبتهم 0.5 بالمئة من سكّان البلاد البالغ عددهم 87 مليون نسمة. وكان الأناضول، أي الجزء الآسيويّ من تركيا، يضمّ مسيحيّين بلغت نسبتهم 20 بالمئة من السكّان في العام 1915، لكنّه فقَدَ مسيحيّيه بالكامل.
في خلال الحرب العالميّة الأولى، قُتِل مئات آلاف المسيحيّين بأيدي العثمانيّين في الأناضول، وهو ما ندَّد به العالم بأسره، لكنّ تركيا ترفض الاعتراف بارتكاب إبادات.
في زيارته، يلتقي البابا قادة الطوائف المسيحيّة الصغيرة المتبقّية في إسطنبول: اليونانيّون والأرمن والسريان. كذلك، يزور كنيسة مار أفرام للسريان الأرثوذكس، وهي أوّل كنيسة تُشيَّد في تركيا منذ أكثر من قرن (افتُتِحت في العام 2023).
وعندما يتوجَّه البابا إلى المسجد الأزرق في منطقة السلطان أحمد، سيظهر أمامه ما يُعرَف بمسجد آيا صوفيا، أكبر كاتدرائيّة في العالم المسيحيّ لقرون. كانت هذه الكاتدرائيّة متحفًا تحَوَّلَ بعد ذلك إلى مسجدٍ في العام 2020، في إطار ظاهرة تعصّبٍ شعبويّة إسلاميّة.
كانت آيا صوفيا، إلى حَدٍّ ما، «بازيليك كاثوليكيّة»، فعندَ سقوط المدينة في العام 1453، كان بطريرك القسطنطينيّة في شركةٍ كاملةٍ مع روما (نتيجةً لمَجْمَع فلورنسا). لكنّ محمّد الفاتح سارع إلى تعيين بطريركٍ يونانيٍّ معادٍ للوحدة مع روما.
لن يزور البابا لاوون آيا صوفيا على الأرجح، احترامًا للموقف الأرثوذكسيّ. ففي العام 1967، عدَّ البعضُ صلاة البابا بولس السادس داخل البازيليك، أي المتحف آنذاك، زلّةً دبلوماسيّة. وكانت بذلك أوّل صلاة كاثوليكيّة علنيّة في المكان منذ خمسة قرون.
وفي إزنيق (نيقيا القديمة)، حيث يُحيي الحبر الأعظم الذكرى الـ 1700 لمَجْمَع نيقيا المسكونيّ، لن يتمكّن من عقد اجتماع في الموقع الذي التأم فيه المَجْمَع فعليًّا. لن يستطيع فعل ذلك، لأنَّ بازيليك آيا صوفيا في نيقيا تحوَّلت هي أيضًا إلى مسجدٍ في العام 2011. ولم يعد هناك أيّ وجودٍ فعليّ لمجتمعٍ مسيحيّ في المدينة.
وفي مقابل المشهد في تركيا النشِطة اقتصاديًّا والخالية من مسيحيّيها تقريبًا، يقف لبنان على خطّ مناقض للواقع التركيّ: هو بلدٌ يغرق في أزمةٍ اقتصاديّة واجتماعيّة خانقة، يختار معظم شبابه، وبينهم المسيحيّون خصوصًا، السَّفر إلى الخارج بأعداد كبيرة.
أنهَكَ الإهمالُ السياسيّ الدولة اللبنانيّة، وبات اقتصادها يترنَّح تحت وطأة التضخّم والبطالة والجريمة والحرب. ورغم غياب إحصاءات رسميّة، يُقدَّر أنّ المسيحيّين يُشكّلون نحو ثلث السكّان البالغ عددهم ستّة ملايين.
وإذا كانت للحضور المسيحيّ في تركيا بصماتٌ أثريّة وتاريخيّة قديمة، فإنّ لبنان لا يزال يحتضن مجتمعًا مسيحيًّا حيًّا، ولا سيّما ضمن الكنيسة المارونيّة. ما زال المسيحيّون يحتفظون بنصف مقاعد البرلمان اللبنانيّ، ويتولّون مناصب أساسيّة، بينها رئاسة الجمهوريّة وقيادة الجيش. ويبقى التأثير المسيحيّ في المجتمع اللبنانيّ واضحًا.
وبينما لا تزال هناك بصمات مسيحيّة قليلة في تركيا، يبقى الوجود المسيحيّ في لبنان واسعًا وقابلًا للاستمرار، حتّى لو كان مهدَّدًا. وما زالت مناطق عدّة، على غرار منطقة جبل لبنان الممتدّة من شرق بيروت وصولًا إلى مشارف طرابلس شمالًا، تضمّ غالبيّة مسيحيّة. وهذه الأرض هي آخِر معقل كبير للمسيحيّين في غرب آسيا.
يُشبِه لبنان، إلى حدٍّ ما، صورة تركيا قبل العام 1915: بلدٌ ذو حضورٍ مسيحيّ كبير يُواجه خطر التآكل والاندثار. ومع أنّ أحدًا لا يتوقّع حصول مجازر مثل تلك التي شهدتها المنطقة قبل قرن، إلّا أنّ الخطر يكمن في الأزمة الاقتصاديّة والانهيار الاجتماعيّ اللذين قد يُفضيان إلى اختفاء المجتمع المسيحيّ العريق.
المصدر: آسي مينا / ألبيرتو فيرنانديز