تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

تأمل غبطة الكاردينال بييرباتيستا: الأحد الثالث والثلاثون من الزمن العادي

الفدس

القدس - يقدّم لنا مقطع إنجيل اليوم (لوقا 21، 5-19)  ما يُعرف بخطاب يسوع "الإسكاتولوجي" أي المتعلّق بنهاية الأزمنة.

تبدأ الرواية بنظرةٍ من بعض الأشخاص الذين كانوا يتأمّلون بإعجابٍ جمالَ الهيكل وزينته (لوقا 21، 5).
لكنّ يسوع يعلن أنّ من كلّ هذا الذين ينظرون إليه بإعجاب، «لن يُترك حجرٌ على حجر» (لوقا 21، 6).

قال يسوع ذلك وهو يدرك تمامًا أهميّة ذلك البناء: فقد كان قلب إيمان الشعب، ورمزًا لأمّةٍ ودينٍ بأكملهما.
سينهار الهيكل، ومعه سينهار عالمٌ بأسره وتعبيرٌ دينيّ وعصرٌ.

ومع ذلك، يتابع يسوع تأمّله ليعلن أنّ هناك شيئًا، بخلاف الهيكل، لن يزول رغم كلّ المحن الكبرى التي سيجتازها.

فالمحن لا تُعدّ ولا تُحصى، وهي من كلّ نوعٍ وشكل.
يعدّد يسوع سلسلةً مروّعة منها تجعلنا نظنّ أنّ الصمود سيكون أمرًا شبه مستحيل: حروبٌ وثورات، تمرّدات، زلازل، مجاعات وأوبئة، أحداثٌ مرعبة وعلامات عظيمة في السماء، هذا دون أن ننسى الاضطهادات، والكراهية، والخيانة، حتّى من الأصدقاء وأفراد العائلة أنفسهم (لوقا 21، 9-17)، أي كلّ ما هو سيئ يمكن أن يحدث.

قد يبدو أنّ الثبات في وسط كلّ هذه المحن والانقلابات أمرٌ مستحيل. ولكن هذا غير صحيح!
الهيكل، بكلّ عظمته، مآله إلى الزوال.
أمّا شعرَةٌ واحدة من رؤوس التلاميذ فلن تفقد (لوقا 21، 18).
ما معنى هذا الوعد؟

لا يعني بالتأكيد أنّ حياة التلاميذ ستكون دون مشاكل أو أنّ الشرّ لن يكون له سلطانٌ عليهم، لأنّ يسوع نفسه يقول في الآية 16 بوضوح إنّ بعضهم، الذين سيُسلمهم أقرباؤهم، سيُقتلون.

بل يعني أنّ كلّ ذلك لن يكون النهاية.
لن تكون تلك خاتمة الحياة، ولا الإيمان، ولا الرجاء، بل علامة على أنّ هناك ما هو أسمى، وأنّ من رحم ذلك يمكن أن يولد جديد.

وكيف يكون هذا ممكنًا؟
يقدّم لنا مقطع الإنجيل اليوم ثلاث إجابات.

أولًا، سيعرف بدايةً جديدة من يضع ثقته بالربّ، أي من يؤمن أنّ الربّ لم يتخلَّ عن تاريخه ولم يتراجع عن وعده،
ومن يؤمن أنّ الربّ قريبٌ بطريقةٍ خاصة من المتألّمين والمضطهدين.
بل هو اليقين بأنّ الربّ حاضرٌ وسط العاصفة، وأنّه يمنح الذين يتّكلون عليه كلمةً وحكمةً تفوق كلّ حكمةٍ بشرية (لوقا 21، 15).

ثانيًا، سيصمد من يملك نظرةً مختلفة إلى الحياة.
فإذا بدأ النصّ بأشخاصٍ يكتفون بتأمّل حجارة الهيكل الجميلة، نجد في المقطع نفسه لاحقًا نظراتٍ أخرى:
نظرة من لا ينخدع بالأوهام، ولا يتبع كلّ من يدّعي أنّه المسيح (لوقا 21، 8)، بل يعرف الربّ من خلال صفاته الفصحية من تألّم ومات وقام ويميّزه دون التباس.

وهناك أيضًا نظرة أخرى: نظرة من يرى في خضمّ الاضطرابات والآلام فرصةً جديدة غير متوقّعة، هي فرصة أن يصبح شاهدًا (لوقا 21، 13).
ومن المميّز أنّ يسوع لا يحدّد موضوع هذه الشهادة ولا الجهة التي تُوجَّه إليها، لأنّ المقصود هو الشهادة على الإيمان نفسه: الشهادة بأنّ الإنسان قادر، رغم الخوف والضيق، على عدم الاستسلام، وعلى أن يبدأ من جديد.

وفي الختام، يبيّن يسوع أنّ من يثابر هو الذي سيصمد (لوقا 21، 19).
فالثبات لا يعني الهروب من الواقع، بل مواجهة الحياة بكلّ أبعادها ومآسيها، ورؤية الخلاص فيها من خلال المثابرة.
إذ إنّ الحياة تُخلَّص فقط عندما تُبذل بالمحبّة.
والحياة التي تُقدَّم في سبيل المحبّة قد تمرّ بالموت، كما حدث مع يسوع،
لكنّها تظلّ حياةً مُفتداة لا تزول، على عكس الهيكل الذي زال حجَرُه عن حجَر.

بل إنّ الحياة المبذولة في سبيل المحبّة هي أسمى شهادةٍ للحقّ وللرجاء،
وعليها يجدر بنا أن نثبّت أنظارنا بإعجابٍ وثقة، فهي ما لا يمكن للموت أن ينتزع منه شيئًا.

المصدر: البطريركية اللاتينية.